أربعون يومًا في المحيط الهادئ: ما بين أمواج الخلق وثبات الخادم.
في قلب المحيط الهادئ، حيث لا حدود لامتداد الخالق، تنكشف للإنسان أبعاد جديدة من شخصية الله وحضوره. لم تكن الأربعون يومًا في عرض البحر مجرد فترة زمنية، بل أشبه بمدرسة لاهوتية مفتوحة، فيها دروس عميقة عن مجد الله المُعلَن في الخليقة، وكيف يمكن لهذا المجد أن يفتح في القلب أُفقًا جديدًا نحو عمقٍ متجدد في الخدمة والإيمان.
كنت أرى المحيط، في امتداده المهيب، ليس فقط مشهدًا طبيعيًا مدهشًا فحسب، بل شهادة يومية على عظمة الخالق. كما هو مكتوب:
«اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ.» (مزمور 19: 1).
كل موجة، كل نسمة، كل انعكاس للضوء فوق الماء، يتحدث عن نظام إلهي دقيق، وعن قوةٍ تُمسِك الكون وتضبطه بدقة تفوق الإدراك البشري.
لكن شخصية الله لا تُدرك بمعزل عن كلمته في الكتاب المقدس، وتكتمل في أبهى صورها بإعلانه الأعظم: سر التجسد وقوة القيامة.
الطبيعة تُعلِن عن مجد الله، وتعكس حكمته، أمَّا الكتاب المقدس يُفسِر هذا المجد بوضوح، ويُظهر محبته وعدله ونعمته في أعمق صورها. كما هو مكتوب:
«وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ..» (1 تيموثاوس 3: 16). أيضًا مكتوب: «بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا» (مزمور 33: 6).
لقد أظهر الرب يسوع سلطانه الكامل مرارًا، ومنها تلك الحادثة العظيمة حين مشى على الماء في وسط العاصفة، مُعلنًا لتلاميذه أنه: «أنا هو، لا تخافوا» (يوحنا 6: 20) فلا خوف بعد حضوره.
هذا السلطان العظيم نفسه تجلّى بأعمق صورة على خشبة الصليب، حين غلب الخطية والموت، وفتح لنا باب الحياة الأبدية، كما هو مكتوب:
«الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ» (1 تيموثاوس 2: 6). وأيضًا «وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ.» (1 كورنثوس 15: 20).
فذاك الذي خلق المياه، هو نفسه الذي سُقي فيها خلاً، ومات وقام ليمنحنا ماء الحياة الأبدية.
تُشبه الخدمة في كثير من جوانبها هذا المشهد. الرياح تهب، الأمواج ترتفع، والرؤية تضيق. لكن المسيح لا يختفي في العاصفة، بل يقترب منها. وهنا يكمن جوهر قوة الخادم: ليست في خبرته أو شجاعته، بل في يقينه بأن الرب حاضر، وسيد كل المواقف.
في هذه الأربعين يومًا، لم تكن التحديات مجرد اختبارات جسدية أو نفسية، بل كانت لحظات تشكيل داخلي. فكل تعب، وكل تأمل في سكون الليل أو صخب البحر، كان يعيد ترتيب الأولويات.
في النهاية، تذكرت كلمات الرب يسوع المسيح:
«ﭐذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ». (مرقس 5: 19).
وهذا هو لب الرسالة: أن نُخبر الآخرين، لا بما نحن عليه، بل بما صنعه الرب معنا ورحمنا. آمين، ولاسمه كل الإكرام والمجد.
التحديات طريق إلى النضج